فصل: تفسير الآية رقم (281)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏281‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏

‏{‏واتقوا يَوْمًا‏}‏ وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيباً ‏{‏تُرْجَعُونَ فِيهِ‏}‏ على البناء للمفعول من الرجع، وقرىء على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل‏:‏ في التهويل، وقرىء يرجعون على طريق الالتفات، وقرأ أبيّ تصيرون وعبد الله تردون ‏{‏إِلَى الله‏}‏ أي حكمه وفصله ‏{‏ثُمَّ توفى‏}‏ أي تعطى كملاً ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ كسبت خيراً أو شراً ‏{‏مَّا كَسَبَتْ‏}‏ أي جزاء ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى، وأعاد الضمير أولاً مفرداً اعتباراً باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول‏:‏ إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله‏.‏ أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية ‏{‏واتقوا يَوْمًا‏}‏ الخ آخر ما نزل من القرآن، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل‏:‏ تسع ليال، وقيل‏:‏ سبعة أيام، وقيل‏:‏ ثلاث ساعات، وقيل‏:‏ أحداً وعشرين يوماً، وقيل‏:‏ أحداً وثمانين يوماً ثم مات بنفسي هو حياً وميتاً صلى الله عليه وسلم‏.‏ روي أنه قال‏:‏ اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «جاءني جبرائيل فقال‏:‏ اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة» ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري، وأبو عبيد، وابن جرير، والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آية الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏282‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏ ‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ بالله تعالى وبما جاء منه ‏{‏إِذَا تَدَايَنتُم‏}‏ أي تعاملتم وداين بعضكم بعضاً ‏{‏بِدَيْنٍ‏}‏ فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصراً لأن ‏(‏تداينتم‏)‏ يجيء بمعنى تعاملتم بدين، وبمعنى تجازيتم، ولا يرد عليه أن السياق يرفع لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن، وقي‏:‏ ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل‏:‏ فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب ‏{‏اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفي به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس، وقيل‏:‏ ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك ‏{‏إلى أَجَلٍ‏}‏ أي وقت وهو متعلق بتداينتم، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل ‏{‏مُّسَمًّى‏}‏ بالأيام أو الأشهر، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض ‏{‏فاكتبوه‏}‏ أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوقف؛ والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏ والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال‏:‏ أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه ثم قرأ الآية واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض‏.‏

‏{‏وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل‏}‏ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالاً، ومفعول يكتب محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للإيذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعاً للتهمة والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص ويجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلقاً بكاتب أو بفعله، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقاً به متفقاً عليه بين أهل العلم، فالكلام كما قال الطيبي مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيهاً ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحسب المفسدين‏.‏

‏{‏وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ‏}‏ أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر ‏{‏أَن يَكْتُبَ‏}‏ بين المتداينين كتاب الدين ‏{‏كَمَا عَلَّمَهُ الله‏}‏ أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق بيكتب والكلام على حد وأحسن كما أحسن الله تعالى ‏{‏إليك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ أي لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن الله تعالى تفضل عليه وميزه ويجوز أن يتعلق الكاف بأن يكتب على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير أن يكتب كتابة مثل علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بالعدل‏}‏ وجوز أن يتعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَكْتُبْ‏}‏ والفاء غير مانعة كما في ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبّرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 3‏]‏ لأنها صلة في المعنى، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأوّل للتأكيد، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمراً بضده صريحاً على الأصح فأكده بذكره صريحاً اعتناءاً بشأن الكتابة، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل، وأما على الوجه الثاني‏:‏ فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع عن المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيداً، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهياً فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهياً بطريق الأولى، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحاً للتوكيد، وأيضاً إذا ورد مطلق ومقيد والحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد، فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى‏؟‏ا و‏(‏ ما‏)‏ قيل‏:‏ إما مصدرية أو كافة وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وعليهما فالضمير لها، وعلى الأولين للكاتب؛ وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم‏.‏

‏{‏وَلْيُمْلِلِ‏}‏ من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت، وقد يبدل أحد المضاعفين ياءاً ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال‏:‏ إملاءاً فهو والإملال بمعنى، أي‏:‏ وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين ‏{‏الذى عَلَيْهِ الحق‏}‏ وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى ‏{‏وَلْيَتَّقِ‏}‏ أي الذي عليه الحق ‏{‏الله رَبَّهُ‏}‏ جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال ‏{‏وَلاَ يَبْخَسْ‏}‏ أي لا ينقص ‏{‏مِنْهُ‏}‏ أي من الحق الذي يمليه على الكاتب ‏{‏شَيْئاً‏}‏ وإن كان حقيراً، وقرىء ‏(‏شياً‏)‏ بطرح الهمزة ‏(‏وشيّاً‏)‏ بالتشديد‏.‏

وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير، وقيل‏:‏ يجوز أن يرجع ضمير يتق للكاتب وليس بشيء لأن ضمير ي ‏(‏يبخس‏)‏ لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهى عن كليهما، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل وإرجاع كل منهما لكل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن، وفي ‏{‏مِنْهُ‏}‏ وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون متعلقاً بيبخس ومن لابتداء الغاية، وثانيهما‏:‏ أن يكون متعلقاً بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصبت حالاً، و‏{‏شَيْئاً‏}‏ إما مفعول به وإما مصدر‏.‏

‏{‏فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق‏}‏ صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب و‏(‏ الحق‏)‏ فاعل، وجوز أن يكون ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ خبراً مقدماً و‏{‏الحق‏}‏ مبتدءاً مؤخراً فتكون الجملة اسمية، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول ‏{‏سَفِيهًا‏}‏ أي عاجزاً أحمق قاله ابن زيد، أو جاهلاً بالإملال قاله مجاهد، أو مبذراً لماله ومفسداً لدينه قاله الشافعي ‏{‏أَوْ ضَعِيفًا‏}‏ أي صبياً، أو شيخاً خرفاً ‏{‏أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ‏}‏ جملة معطوفة على مفرد هو خبر ‏(‏كان‏)‏ لتأويلها بالمفرد أي أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في أن يمل وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، وقيل‏:‏ إن الضمير فاعل ليمل وتغيير الأسلوب اعتناءاً بشأن النفي، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم، ومثله الفك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ‏}‏ أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيم والوكيل والمترجم، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه ‏{‏بالعدل‏}‏ بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذمياً ولا فاسقاً وأنه يجوز أن يكون عبداً أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏

ومن الناس من استدل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلْيَكْتُبْ‏}‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ‏}‏ على وجوب الكتابة، وإلى ذلك ذهب الشعبي والجبائي والرماني إلا أنهم قالوا‏:‏ إنها واجبة على الكفاية وإليه يميل كلام الحسن وقال مجاهد والضحاك‏:‏ واجب عليه أن يكتب إذا أمر، وقيل‏:‏ هي مندوبة، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك‏.‏

‏{‏واستشهدوا شَهِيدَيْنِ‏}‏ أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا؛ وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزاً إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك ‏{‏مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ متعلق باستشهدوا و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين، و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية، وفي ذكر الرجال مضافاً إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم، وأيضاً خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة، وإلى ذلك ذهب شريح وابن سيرين وأبو ثور وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض، وأجاز ذلك قياساً الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت مللهم‏.‏

‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا‏}‏ أي الشهيدان ‏{‏رَّجُلَيْنِ‏}‏ أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَجُلٌ وامرأتان‏}‏ أي فإن لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان، أو فرجل وامرأتان يشهدون أو يكفون، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان شهوداً، وإن جعلت يكن تامة استغنى عن تقدير شهود، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح، وقال مالك‏:‏ لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص ولا الولاء ولا الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك مما بين في الكتب الفقهية، وقرىء وامرأتان بهمزة ساكنة، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به فلا يرد ما في «البحر» من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين، وقيل‏:‏ هو صفة لشهيدين وضعف بالفصل الواقع بينهما، وقيل‏:‏ بدل من رجالكم بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضاً، واختار أبو حيان تعلقه باستشهدوا ليكون قيداً في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله وهو كما ترى والخطاب للمؤمنين، وقيل‏:‏ للحكام ولم يقل من المرضيين لإفهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر ‏{‏مِنَ الشهداء‏}‏ متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب‏.‏

‏{‏أَن تَضِلَّ أَحَدُهُمَا *فَتُذَكّرَ أَحَدُهُمَا الاخرى‏}‏ بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلاً للآمر وباعثاً عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُذَكّرَ‏}‏ قيل‏:‏ والنكتة في إيثار ‏{‏أَن تَضِلَّ‏}‏ الخ على أن تذكر إن ضلت الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضياً إليه، و‏(‏ إحداهما‏)‏ الثانية يجوز أن تكون فاعل تذكر وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية، ويجوز أن تكون مفعولاً لتذكر والأخرى فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى كما وهم حتى يتعين الأول بل من قبيل أرضعت الصغرى الكبرى لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا كما قيل عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذٍ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي، وذكر غير واحد أن العدول عن فتذكرها الأخرى وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال بإحداهما بعينها والتذكير بالأخرى، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير ‏(‏إحداهما‏)‏ الأولى راجعاً إلى الشهادتين، وضمير ‏(‏إحداهما‏)‏ الأخرى إلى المرأتين فالمعنى أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالاً وإنما يقال‏:‏ ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه‏:‏

‏{‏ضَلُّواْ عَنَّا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 37‏]‏ أي ضاعوا منا، وعليه يكون الكلام عارياً عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأساً وليس بشيء إذ لا يكون لإحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام، وما ذكر في التأييد ينبىء عن قلة الاطلاع على اللغة‏.‏ ففي «نهاية ابن الأثير» وغيرها إطلاق الضال على الناسي، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع والسدي وغيرهم، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل‏:‏ إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى ‏{‏فَتُذَكّرَ‏}‏ الخ فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصوراً من جهة المعنى واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بين، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكراً مجازاً عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانياً لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه وبعد التجوز ليس على ظاهره لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر ألبتة معهما‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ‏}‏ ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضاً والتزام توجيه مثل ذلك، وعرضه في سوق القبول لا يعد فضلاً بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول، ولقد رأيت في «طراز المجالس» أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار إحدى معرضاً بما ذكره المغربي فقال‏:‏

يا رأس أهل العلوم السادة البرره *** ومن نداه على كل الورى نشره

ما سر تكرار إحدى دون تذكرها *** في آية لذوي الأشهاد في البقره

وظاهر الحال إيجاز الضمير على *** تكرار ‏(‏إحداهما‏)‏ لو أنه ذكره

وحمل الإحدى على نفس الشهادة في *** أولاهما ليس مرضياً لدى المهره

فغص بفكرك لاستخراج جوهره *** من بحر علمك ثم ابعث لنا درره

فأجاب القاضي

يا من فوائده بالعلم منتشره *** ومن فضائله في الكون مشتهره

يا من تفرد في كشف العلوم لقد *** وافى سؤالك والأسرار مستتره ‏(‏تضل إحداهما‏)‏ فالقول محتمل

كليهما فهي للإظهار مفتقره ولو أتى بضمير كان مقتضيا *** تعيين واحدة للحكم معتبره ومن رددتم عليه الحل فهو كما

أشرتم ليس مرضياً لمن سبره هذا الذي سمح الذهن الكليل به *** والله أعلم في الفحوى بما ذكره

وقرىء ‏{‏أَن تَضِلَّ‏}‏ بالبناء للمفعول والتأنيث، وقرىء فتذاكر وقرأ ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو والحسن فتذكر بسكون الذال وكسر الكاف، وحمزة ‏{‏أَن تَضِلَّ‏}‏ على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين، والفاء في الجزاء قيل‏:‏ لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة، وقيل‏:‏ لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعاً مثبتاً يجوز فيه الفاء وتركه، وقيل‏:‏ الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير الذاكرة و‏(‏ إحداهما‏)‏ بدل عنه أو عن الضمير في ‏(‏تذكر‏)‏ وقال بعض المحققين‏:‏ الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما تذكر إحداهما الأخرى وعليه كلام كثير من المعربين، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبا لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفراداً وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر‏.‏

‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ‏}‏ لأداء الشهادة أو لتحملها وهو المروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم وخص ذلك مجاهد وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة، و‏{‏مَا‏}‏ صلة وهي قاعدة مطردة بعد ‏{‏إِذَا‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَسْئَمُواْ‏}‏ أي تملوا أو تضجروا، ومنه قول زهير‏:‏

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

‏{‏أَن تَكْتُبُوهُ‏}‏ أي الدين أو ‏(‏الحق‏)‏ أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به لتسأموا ويتعدى بنفسه، وقيل‏:‏ يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به، وقيل‏:‏ المراد من السأم الكسل إلا أنه كنى به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏ ولذا وقع في الحديث‏:‏ ‏"‏ لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت ‏"‏ وقرىء ولا يسأموا أن يكتبوه بالياء فيهما ‏{‏صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا‏}‏ حالان من الضمير أي على كل حال قليلاً أو كثيراً مجملاً أو مفصلاً، وقيل‏:‏ منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير اهتماماً به وانتقالاً من الأدنى إلى الأعلى ‏{‏إِلَى أَجَلِهِ‏}‏ حال من الهاء في تكتبوه أي مستقراً في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقاً بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ أي الكتب وهو الأقرب أو الإشهاد وهو الأبعد أو جميع ما ذكر وهو الأحسن والخطاب للمؤمنين ‏{‏أَقْسَطُ‏}‏ أي أعدل ‏{‏عَندَ الله‏}‏ أي في حكمه سبحانه‏.‏ ‏{‏وَأَقْوَمُ للشهادة‏}‏ أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ، وقيل‏:‏ من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وقال أبو حيان‏:‏ قسط يكون بمعنى جار وعدل، وأقسط بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط وقيل‏:‏ هو من قسط بوزن كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه ‏{‏وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ‏}‏ أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك، قيل‏:‏ وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ، والكرام الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليماً للعباد وإرشاداً للحكام، وحرف الجر مقدر هنا وهو إلى كما سمعت وقيل‏:‏ اللام، وقيل‏:‏ من، وقيل في، ولكل وجهة ‏{‏إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ‏}‏ استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَكْتُبْ بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل‏}‏ إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يداً بيد كذا قيل‏.‏ وفي «الدر المصون» يجوز أن يكون استثناءاً متصلاً من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة، وقيل‏:‏ إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضاً أي لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة؛ وقيل‏:‏ غير ذلك ولعل الأول أولى ونصب عاصم ‏(‏تجارة‏)‏ على أنها خبر ‏(‏تكون‏)‏ واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة كما قال الفراء وعود الضمير في مثل ذلك على متأخر لفظاً ورتبة جار في فصيح الكلام، وقال بعضهم‏:‏ يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام، وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الإخبار عن المعنى بالعين، ورفعها الباقون على أنها اسم ‏{‏تَكُونُ‏}‏ والخبر جملة ‏{‏تُدِيرُونَهَا‏}‏ ويجوز أن تكون ‏{‏تَكُونُ‏}‏ تامة فجملة ‏{‏تُدِيرُونَهَا‏}‏ صفة‏.‏

‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا‏}‏ أي فلا مضرة عليكم أو لا إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان، أو لأن في تكليفكم الكتابة حينئذٍ مشقة جداً وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ أي هذا التبايع المذكور أو مطلقاً ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ نهي عن المضارة والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول والدليل عليه قراءة عمر رضي الله تعالى عنه ولا يضار بالفك والكسر، وقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالفك والفتح والمعنى على الأول‏:‏ نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان، وعلى الثاني‏:‏ النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو لا يعطي الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مؤونة المجىء من بلد، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ‏}‏ الخ كان أحدهم يجىء إلى الكاتب فيقول‏:‏ اكتب لي فيقول‏:‏ إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول‏:‏ إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ الحسن ولا يضار بالكسر‏.‏ وقرىء بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي ‏{‏وَإِن تَفْعَلُواْ‏}‏ ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ أي ذلك الفعل ‏{‏فُسُوقٌ بِكُمْ‏}‏ أي خروج عن طاعة متلبس بكم، وجوز كون الباء للظرفية، قيل‏:‏ وهو أبلغ إذ جعلوا محلاً للفسق ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما أمركم به ونهاكم عنه ‏{‏وَيُعَلّمُكُمُ الله‏}‏ أحكامه المتضمنة لمصالحكم ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك فإن قيل‏:‏ كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله‏:‏

فما للنوى جذ النوى قطع النوى‏.‏‏.‏‏.‏

حتى قيل‏:‏ سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه‏؟‏ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وما في البيت من القسم الثاني لأن جذ النوى قطع النوى فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن ‏{‏اتقوا الله‏}‏ حث على تقوى الله تعالى ‏{‏وَيُعَلّمُكُمُ الله‏}‏ وعد بإنعامه سبحانه ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ تعظيم لشأنه عز شأنه، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبراً وإنشاءاً، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالاً من فاعل ‏{‏اتقوا‏}‏ أي اتقوا الله مضموناً لكم التعليم، ويجوز أن تكون حالاً مقدرة، والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالاً بالواو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏283‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ‏}‏ أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه ‏{‏وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا‏}‏ يكتب لكم حسبما بين قبل، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال‏.‏ وقرأ أبو العالية ‏(‏كتباً‏)‏، والحسن وابن عباس كتاباً جمع كات ‏{‏فرهان مَّقْبُوضَةٌ‏}‏ أي فالذي يستوثق به أو فعليكم أو فليؤخذ أو فالمشروع رهان وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير كما في البخاري بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلاً كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي‏:‏

فالخبز واللحم لهن راهن *** وقهوة راووقها ساكب

وفي التعبير بمقبوضة دون تقبضونها إيماءاً إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرىء فرهن كسقف وهو جمع رهن أيضاً، وقرىء بسكون الهاء تخفيفاً‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏ أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفراً أو حضراً فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن، وقرأ أبيّ فإن أومن أي أمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله، و‏{‏بَعْضًا‏}‏ على هذا منصوب بنزع الخافض كما قيل ‏{‏فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن‏}‏ وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ولحمله على الأداء‏.‏ ‏{‏أمانته‏}‏ أي دينه، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الإرتهان به‏.‏  وقرىء الذيتمن بقلب الهمزة ياءاً، وعن عاصم أنه قرأ الذتمن بإدغام الياء في التاء، وقيل‏:‏ هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا يدغم، ورد بأنه مسموع في كلام العرب، وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال‏:‏ إنه مقصور على السماع، ومنه قراءة ابن محيصن اتمن ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب الكوفيين، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم، ففي البخاري عنها كان صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فالمخطىء مخطىء ‏{‏وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏ في الخيانة وإنكار الحق، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى، وقد أمر سبحانه بالتقوى عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيماً لحقوق العباد وتحذيراً عما يوجب وقوع الفساد‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة‏}‏ أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطاباً للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة، أو لا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح، وقرىء ‏(‏يكتموا‏)‏ على الغيبة ‏{‏وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏ الضمير في أنه راجع إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ وهو الظاهر، وقيل‏:‏ إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له، و‏(‏ آثم‏)‏ خبر ‏(‏إن‏)‏ وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجىء هذا على القول بأن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري، والكوفي يجيز ذلك، وقيل‏:‏ إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ‏(‏إن‏)‏ وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون لمن وقيل‏:‏ ‏(‏آثم‏)‏ خبر ‏(‏إن‏)‏ وفيه ضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير إنه وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل، وقيل‏:‏ ‏(‏آثم‏)‏ مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر، والجملة خبر ‏(‏إن‏)‏، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين والأخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل‏:‏ ‏(‏فإنه آثم‏)‏ لتم المعنى مع الاختصار، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي‏؟‏ ولأن الإثم وإن كان منسوباً إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزاً به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب، وقيل‏:‏ أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، وقيل‏:‏ للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء في الخبر «إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه»، أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله، فقد ورد «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» والكل ليس بشيء كما لا يخفى، وقرىء ‏(‏قلبه‏)‏ بالنصب على التشبيه بالمفعول به‏.‏

و ‏(‏آثم‏)‏ صفة مشبهة، وجوز أبو حيان كونه بدلاً من اسم إن بدل بعض من كل، وبعضهم كونه تمييزاً واستبعده أبو البقاء، وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏قَلْبُهُ والله‏}‏ أي جعله آثماً ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ فيجازيكم بذلك إن خبراً فخير وإن شراً فشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏284‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏‏}‏

 ‏{‏لّلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِى الارض‏}‏ من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ‏}‏ أي تظهروا للناس ‏{‏مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي ما حصل فيها حصولاً أصلياً بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة ‏{‏أَوْ تُخْفُوهْ‏}‏ بأن لا تظهروه‏.‏

‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ أي يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ‏"‏ أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافاً لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه‏.‏ ولا يشكل على هذا أنهم قالوا‏:‏ إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏ لأنا نقول‏:‏ المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضاً من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله‏:‏

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا *** فخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزم كلها رفعت *** سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

فالآية على ما قررنا محكمة، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجاً بما أخرجه أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا‏:‏ يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قلبكم‏:‏ سمعنا وعصينا‏؟‏ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها ‏{‏آمنالرسول‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه ‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ الخ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر ‏{‏إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ قال‏:‏ نسختها الآية التي بعدها، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه، ويكون الحديث إخباراً عما كان بعد النسخ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني‏.‏

ومن هنا قال الطبرسي‏:‏ وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفاً، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره؛ وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازاً كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعفوا واصفحوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏ كأنه قيل‏:‏ كيف يحمل ‏{‏مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال‏:‏ «أخطأت أم أصبت يا رسول الله‏؟‏ فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ أصبت بعضها وأخطأت بعضها» ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى، وقيل‏:‏ معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول إلى قولنا أن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهراً أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك يحاسبكم به الله وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال‏:‏ نزلت في الشهادة، وقيل‏:‏ الآية على ظاهرها، و‏{‏مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى ‏{‏يُحَاسِبْكُم‏}‏ يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلوا عن نظر فتدبر‏.‏

وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب‏.‏ وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى أَنفُسَكُمْ أَوِ *تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله‏}‏ فلما قيل‏:‏ إن المعلق بما في أنفسهم هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية‏.‏

‏{‏فَيَغْفِرُ‏}‏ بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله ‏{‏لِمَن يَشَاء‏}‏ أن يغفر له من عباده ‏{‏وَيُعَذّبَ‏}‏ بعَدْلِهِ‏.‏ ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ أن يعذبه من عباده، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه، وقرأ غير ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بجزم الفعلين عطفاً على جواب الشرط، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار أن وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك‏:‏

والفعل من بعد الجزا إن يقترن *** بالفاء أو الواو بتثليث قمن

وقرأ ابن مسعود يغفر، ويعذب بالجزم بغير فاء ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من ‏{‏يُحَاسِبْكُم‏}‏ بدل البعض من الكل أو الاشتمال، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه بيحاسبكم ومطلق الحساب جامع لهما فإن اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل، وقيل‏:‏ إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال كأحب زيداً علمه وإن أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض كضربت زيداً رأسه وقيل‏:‏ غير ذلك، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال‏:‏ ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد خير نار عندها خير موقد

فإنهم جعلوا الإلمام بدلاً من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف، وروي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام، وطعن الزمخشري على عادته في الطعن في القراآت السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراآت السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجح بكونه إثباتاً، ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له وممن روى ذلك عنه أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت إمام في اللغات، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازماً على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعاً، منهم الكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرواسي، ولسان العرب ليس محصوراً فيما نقله البصريون فقط، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم‏.‏

‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏285‏]‏

‏{‏آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏‏}‏

‏{‏ءامَنَ الرسول‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة الزكاة، والطلاق، والحيض، والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدين، والربا ختمها بهذا تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بذلك بالفعل وذكره صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده‏.‏ أخرج الحاكم والبيهقي عن أنس قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏الرسول بِمَا‏}‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة وهي شاهد لحديث أنس «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن2

‏{‏بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ‏}‏ من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيماناً تفصيلياً، وأجمله إجلالاً لمحله صلى الله عليه وسلم وإشعاراً بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الإبتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف ‏{‏والمؤمنون‏}‏ يجوز أن يكون معطوفاً على الرسول مرفوعاً بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في «المصاحف» عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ وآمن المؤمنون وعليه يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ ءامَنَ‏}‏ جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر؛ وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ، و‏{‏كُلٌّ‏}‏ مبتدأ ثان، و‏{‏مِن‏}‏ خبره، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون ‏{‏كُلٌّ‏}‏ تأكيداً لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيداً للمعرفة إلا إذا أضيف لفظاً إلى ضميرها ورجح الوجه الأول بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلاً في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لكون جملتهم إسمية ومؤكدة، وعورض بأن في الثاني إيذاناً بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيداً للإشعار بما بين إيمانه صلى الله عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشيء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب؛ ويلزم على الأول‏:‏ أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطاً لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتاً وتعلقاً بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله عليه وسلم واللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافاً بيناً ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الاتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الإسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك، وتوحيد الضمير في ‏{‏مِن‏}‏ مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله آمن ‏{‏بالله‏}‏ أي صدق به وبصفاته ونفى التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك ‏{‏وَمَلَئِكَتُهُ‏}‏ من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلاً من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالاً وإنما لم يذكر ههنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن البر مَنْ ءامَنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 771‏]‏ الخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيراً ما يختصر فيها، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكتابه بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع على ما ذهب إليه إمام الحرمين، والزمخشري وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداءاً فلا يخرج عنه شيء منه قليلاً أو كثيراً بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولاً وبالذات ثم يسري إلى الآحاد وهذا المبحث من معضلات علم المعاني وقد فرغ من تحقيقه هناك‏.‏

‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ‏}‏ في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير ‏{‏كُلٌّ‏}‏ مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع ولعله أولى والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير ‏{‏مِن‏}‏ أو مرفوعة على أنها خبر آخر لكل أي يقولون، أو يقول‏:‏ لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعاً ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقاً للحق وتنصيصاً على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين‏.‏

ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها، ومن اعتبر إدراج الرسول في ‏{‏كُلٌّ‏}‏ واستبعد هذا قال بالتغليب ههنا، ومن لم يستبعد إذ كان صلى الله عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏ إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات وقرأ يعقوب، وأبو عمرو في رواية عنه لا يفرق بالياء على لفظ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وقرىء لا يفرقون حملاً على معناه، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا، والكلام على ‏{‏أَحَدٌ‏}‏ وإدخال ‏{‏بَيْنَ‏}‏ عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏مِن‏}‏ والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم ‏{‏سَمِعْنَا‏}‏ أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأوامر والنوهي، وقيل‏:‏ ‏(‏سمعنا‏)‏ ما جاءنا من الحق وتيقناً بصحته، و‏(‏ أطعنا‏)‏ ما فيه من الأمر والنهي ‏{‏غُفْرَانَكَ رَبَّنَا‏}‏ أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك، أو نسألك غفرانك ذلك، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به ولعل الأول أولى لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسؤول أقرب إلى الإجابة والقبول، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة ‏{‏وَإِلَيْكَ المصير‏}‏ أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي، والجملة قيل‏:‏ معطوفة على مقدر أي فمنك المبدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏286‏]‏

‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ جملة مستأنفة سيقت إخباراً منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بما له عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداءاً لا بعد السؤال كما سيجيء والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه لا يكلف نفساً من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلاً فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستاً وزيادة‏.‏ وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلاً منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنه على هذه الأمة خاصة‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة وسعها بفتح السين والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه، أما على الأول‏:‏ فظاهر، وأما على الثاني‏:‏ فبطريق الأولى، وقيل‏:‏ إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى‏.‏

‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت‏}‏ جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل‏:‏ يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحاً لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم ولا يخفى أنه بعيد من جهة قريب من أخرى والضمير في ‏{‏لَهَا‏}‏ للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين ‏{‏مَا‏}‏ الأولى‏:‏ الخير لدلالة اللازم الدالة على النفع عليه، ومبين ‏{‏مَا‏}‏ الثانية‏:‏ الشر لدلالة على الدالة على الضر عليه وإيراد الإكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله،  ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال‏.‏

‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل‏:‏ استيفاء لحكاية الأقوال، وفي «البحر» وهو المروي عن الحسن أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل وقد تقدم‏:‏

لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه *** من فيض جودك ما علمتني الطلبا

والمؤاخذة المعاقبة، وفاعل هنا بمعنى فعل، وقيل‏:‏ المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه، الأول‏:‏ أن المراد من الأول الترك ومنه قوله‏:‏

ولم أك عند الجود للجود قاليا *** ولا كنت يوم الروع للطعن ناسياً

والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطأ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمداً كأنه قيل‏:‏ ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات، الثاني‏:‏ أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير، الثالث‏:‏ أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقاً إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلاً فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهواً أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطى المعاصي أيضاً لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلاً فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتداداً بالنعمة فيه‏.‏ ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني، وقال النووي حديث حسن‏:‏ ‏"‏ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه ‏"‏ وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلاً منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلاً يستدام ونعمة يعتد بها

‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا‏}‏ أي عبئاً ثقيلاً يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه‏.‏ والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل‏:‏ الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرىء ‏(‏آصاراً‏)‏ على الجمع، وقرأ أبيّ ولا تحمّل بالتشديد للمبالغة ‏{‏كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا‏}‏ في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملاً مثل حملك إياه على من قبلنا، أو على أنه صفة لإصراً أي إصراً مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها، وقيل‏:‏ من البدن وصرف ربع المال في الزكاة‏.‏

‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجازباً باعتبار ما يؤدى إليه، وجوز أن يكون طلباً لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل‏:‏ هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلاً على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي، والتشديد ههنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير

‏{‏واعف عَنَّا‏}‏ أي امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة‏.‏ ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ بستر القبيح وإظهار الجميل ‏{‏وارحمنا‏}‏ وتعطف علينا بما يوجب المزيد، وقيل‏:‏ ‏{‏أَذْهَبَ عَنَّا‏}‏ من الأفعال ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ من الأقوال ‏{‏وارحمنا‏}‏ بثقل الميزان، وقيل‏:‏ ‏{‏واعف عَنَّا‏}‏ في سكرات الموت ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ في ظلمة القبور ‏{‏وارحمنا‏}‏ في أهوال يوم النشور، قال أبو حيان‏:‏ ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ ربنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء فاعف عنا مقابلاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُؤَاخِذْنَا‏}‏ ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا‏}‏ ‏{‏وارحمنا‏}‏ لقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب ‏{‏أَنتَ مولانا‏}‏ أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال‏:‏ مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء‏:‏

وإن صخراً لمولانا وسيدنا *** وإن صخراً إذا اشتوا لمنحار

وخطئوا من قال‏:‏ سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى كما قاله ابن أيبك ولي فيه تردد قيل‏:‏ والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا ‏{‏فانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق الكفرة وأتى بالفاء إيذاناً بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم عليّ وأنت البطل فاحْمِ الجار‏.‏

ومن باب الإشارة في هذه الآيات‏:‏ ‏{‏للَّهِ مَا فِى السموات‏}‏ أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه ‏{‏وَمَا فِى الارض‏}‏ أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ يشهده بأسمائه وظواهره فيحاسبكم به وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فيغفر لكم لمن يشاء لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيآته وعدم رسوخها في ذاته ‏{‏وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ سيآته في نفسه ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب ‏{‏الرسول بِمَا‏}‏ الكامل الأكمل ‏{‏بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ‏}‏ أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به ‏{‏والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله‏}‏ وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه ‏{‏وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون ‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ‏}‏ برد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق ‏{‏وَقَالُواْ سَمِعْنَا‏}‏ أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا ‏{‏غُفْرَانَكَ رَبَّنَا‏}‏ أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ ‏{‏وَإِلَيْكَ المصير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ بالفناء فيك ‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ‏}‏ من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال ‏{‏وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت‏}‏ وتوجهت إليه بالقصد من السوء ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا‏}‏ عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة ‏{‏أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا‏}‏ وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب ‏{‏كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن‏}‏ من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات ‏{‏قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك ‏{‏واعف عَنَّا‏}‏ سيآت أفعالنا وصفاتنا فإنها سيآت حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك ‏{‏واغفر لَنَا‏}‏ ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر ‏{‏وارحمنا‏}‏ بالوجود الموهوب بعد الفناء ‏{‏أَنتَ مولانا‏}‏ أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك ‏{‏فانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم

هذا وقد أخرج مسلم والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت، وأخرج أبو سعيد والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها، وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين، وأخرج الأئمة الستة في «كتبهم» عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏ من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ‏"‏ وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان ‏"‏ وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل ‏"‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في «الشعب» عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء ‏"‏ وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال‏:‏ ما كنت أرى أحداً يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة‏.‏ والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى‏.‏ اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعاً عما بتوفيقك أردناه، وصل وسلم على خليفتك الأعظم، وكنزك المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح‏.‏

‏[‏سورة آل عمران‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قرأ أبو جعفر والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه الفواتح مفردة كص ولا موازنة المفرد كحم حسبما ذكر في الكتاب الحكاية فقط ساكنة الإعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء، أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعاً، ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر الميم، والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم قيل‏:‏  وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقف كقوله‏:‏ واحد اثنان لا لالتقاء الساكنين كما قال سيبويه فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك في لام وإلى ذلك ذهب الفراء وفي «البحر» إنه ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل وما يسقط لا تلقى حركته كما قاله أبو علي وقولهم‏:‏ إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الإلقاء مخالف لإجماع العرب، والنحاة أنه لا يوقف على متحرك ألبتة سواء في ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع فلا يجوز في ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على دال ‏{‏قَدْ‏}‏ بالفتحة بل تسكنها قولاً واحداً، وأما تنظيرهم بواحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ولم يحك الكسر لغة فإن صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه كما زعموا، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم‏:‏ اثنان فالتقى ساكنان دال واحد، وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل، وأما قولهم‏:‏ إنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام، فجوابه أن الذي قال‏:‏ إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما التقاء الياء والميم من ألم في الوقف بل أراد الميم الأخير من ألم ولام التعريف فهو كالتقاء نون من، ولام الرجل إذ قلت من الرجل‏؟‏ على أن في قولهم تدافعاً فإن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها، وهذا متناقض، ولذا قال الجاربردي‏:‏ الوجه ما قاله سيبويه، والكثير من النحاة أن تحريك الميم لالتقاء الساكنين واختيار الفتح لخفته وللمحافظة على تفخيم الاسم الجليل، واختار ذلك ابن الحاجب وادعى أن في مذهب الفراء حملاً على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ لا بد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف، والقول‏:‏ بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوي فيما المطلوب منه الخفة كثلاثة أربعة وههنا الاحتياج إلى التخفيف أمسّ ولهذا جعلوه من موجبات الفتح، وإنما قيل ذلك لأن هذه الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لا بناء وحقها أن يوقف عليها، و‏{‏الم‏}‏ رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما قرعاً للعصا أو مقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضاً القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعاراً بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين وحيث كانت حركة الميم لغيرها كانت في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم لئلا يلزم المحذر وكلام الزمخشري في هذا المقام مضطرب ففي «الكشاف» اختار مذهب الفراء، وفي «المفصل» اختار مذهب سيبويه، ولعل الأول‏:‏ مبني على الاجتهاد والثاني‏:‏ على التقليد والنقل لما في «الكتاب» لأن المفصل مختصره فتدبر‏.‏

وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الإعراب وغيره، وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده، والاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره، والجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا غير، و‏{‏الحى القيوم‏}‏ خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الحي القيوم لا غير، وقيل‏:‏ هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الإسم الكريم، أو حال منه على رأي من يرى صحة ذلك أيّاً مّا كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه، وقد أخرج الطبراني وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعاً أن اسم الله الأعظم في ثلاث سور سورة البقرة وآل عمران وطه، وقال أبو أمامة‏:‏ فالتمستها فوجدت في البقرة ‏(‏255‏)‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏}‏ وفي آل عمران ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏}‏ وفي طه ‏(‏111‏)‏ ‏{‏وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم‏}‏

وقرأ عمر وابن مسعود وأبيّ وعلقمة الحي القيام وهذا رد على النصارى الزاعمين أن عيسى عليه السلام كان رباً، فقد أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال‏:‏ «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران وكانوا ستين راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب وعبد المسيح والايهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون‏:‏ هو الله تعالى، ويقولون‏:‏ هو ولد الله تعالى، ويقولون‏:‏ هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية، وهم يحتجون لقولهم يقولون‏:‏ هو الله تعالى فإنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، ويحتجون في قولهم إنه ولد الله تعالى‏:‏ بأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد وصنع ما لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة‏:‏ إن الله تعالى يقول فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فلو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وخلقت وقضيت ولكنه هو وعيسى ومريم، ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما العاقب، والسيد كما في رواية الكبي‏.‏

والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسلما قالا‏:‏ قد أسلمنا قبلك قال‏:‏ كذبتما منكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير‏؟‏ قالا‏:‏ فمن أبوه يا محمد‏؟‏ وصمت فلم يجب شيئاً فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فافتتح السورة بتنزيه نفسه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد، واحتج عليهم بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال‏:‏ ‏{‏الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏}‏ أي ليس معك غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت وقد مات عيسى عليه السلام في قولهم‏:‏ ‏(‏القيوم‏)‏ القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى، وفي رواية ابن جرير عن الربيع قال‏:‏ «إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له‏:‏ من أبوه‏؟‏ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ فهل يعلم عيسى من ذلك شيئاً إلا ما علم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ فكيف يكون هذا كما زعمتم‏؟‏ فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً فأنزل ‏{‏الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ أي القرآن الجامع للأصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح إليه التصريح باسم «التوراة» و«الإنجيل»، وفي الإتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب، وإيثار على على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام؛ والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر، وما قبل كله اعتراض أو حال، و‏{‏الحى القيوم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 2‏]‏ صفة أو بدل، وقرأ الأعمش ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ بالتخفيف، ورفع الكتاب والجملة حينئذٍ منقطعة عما قبلها، وقيل‏:‏ متعلقة به بتقدير من عنده ‏{‏بالحق‏}‏ أي بالصدق في أخباره أو بالعدل كما نص عليه الراغب أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبساً بالحق أو محقاً، وفي «البحر» يحتمل أن يكون الباء للسببية أي بسبب إثبات الحق ‏{‏مُصَدّقاً‏}‏ حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الأول أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة ‏{‏لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي الكتب السالفة والظرف مفعول ‏(‏مصدقاً‏)‏ واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت ‏{‏وَأَنزَلَ‏}‏ ذكرهما تعييناً ‏(‏لما بين يديه‏)‏ وتبييناً لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا عليه والتعبير بأنزل فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزول من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه‏:‏ نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل‏:‏ إن نزل يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ حيث قرن نزل بكونه جملة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئاً فشيئاً كما في تسلسل، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة نزل تدل عليه، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام‏.‏

واختلف في اشتقاق «التوراة» و«الإنجيل» فقيل‏:‏ اشتقاق الأول من ورى الزناد إذا قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال، وقيل‏:‏ من ورى في كلام إذا عرّض لأن فيها رموزاً كثيرة وتلويحات جليلة، ووزنها عند الخليل وسيبويه فوعلة كصومعة، وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاءاً وتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصارت توراة وكتبت بالياء تنبيهاً على الأصل ولذلك أميلت، وقال الفراء‏:‏ وزنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفاً وفعل ذلك تخفيفاً كما قالوا في توصية توصاة، واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولاً وهي لا تزاد كذلك إلا في مواضع ليس هذا منها، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفاً، وقيل‏:‏ اشتقاق الثاني من النجل بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض، ومنه النجيل لما ينبت فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد كما قاله الزجاج وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة، وقيل‏:‏ من النجل وهو التوسعة، ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها، وقيل‏:‏ مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي به لكثرة التنازع فيه كذا قيل ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر، وأما على تقدير أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر سرياني وهو الظاهر فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته، ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلاً ليتعرف ذلك كما أشرنا إليه فيما قبل، والاستدلال على عربيتهما بدخول اللام لأن دخولها في الأعلام العجمية محل نظر محل نظر لأنهم ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف كما في الإسكندرية فإن أبا زكريا التبريزي قال‏:‏ إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته‏.‏ ومما يؤيد أعجمية «الإنجيل» ما روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة، وأفعيل ليس من أبنية العرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ متعلق بأنزل أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب، وقيل‏:‏ من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلنَّاسِ‏}‏ أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه حيث يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير، والقول بأنه يهتدى بهما أيضاً فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف، ويجوز أن ينتصب ‏(‏هدى‏)‏ على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي هدى، وجعله حالاً من ‏{‏الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3‏]‏ مما لا ينبغي أن يرتكب معه‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ الفرقان‏}‏ أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيماً لشأنه ورفعاً لمكانه، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه السلام وغيره، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في محاجة النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر أخيه عيسى عليه السلام وعليه يكون المراد بالفرقان بعض القرآن ولم يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناءاً به، ومثل هذا القول ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة، وقيل‏:‏ المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر، وقيل‏:‏ نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، وقيل‏:‏ المراد به الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولاً لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر، واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الأحكام، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة أيضاً ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به، وأورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به، وقيل‏:‏ المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أطلق على الفاعل مبالغة‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله‏}‏ يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعييناً لحيثية كفرهم وتهويلاً لأمرهم وتأكيداً لاستحقاقهم العذاب، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولاً أولياً ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام ‏{‏والله عَزِيزٌ‏}‏ أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ‏{‏ذُو انتقام‏}‏ افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال‏:‏ انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، ومجرده نقم بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم، واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقاً، والجملة اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له‏.‏